العمامة الرمادية – قصة قصيرة

by admin
0 comment 20 views

  بقلم الدكتور طالب الرماحي

  كنت أحلم أن أعفَّر أهدابي بغبار المعركة ، فإذا رأيت أحداً قادماً من الجبهات ، اسرعتُ إليه امسحُ أثوابه ، افعل ذلك تبرُّكاً ، فهو قادم من هناك ، ميدان يمارس فيه المئات منا لعبة الموت بدم بارد ، لعبة يتساوى فيها الموت والحياة ، طالما أن الموت في سبيل الله ، وأن العدو هو حزب البعث .

 وتحقق حلمي ، فقد جرفتني الرغبة العارمة للذهاب إلى جبهات الحرب ، وبعد أيام قليلة ، أصاب أحدُ صواريخ العدو السيارة التي أقلها فجُرحتُ ، وأرسلتني المفرزة الطبية مع آخرين ، إلى مدينة إيلام أعالج إصاباتي  في أحد مستشفياتها .

 كنت في أواخر تموز من سنة 1983 ، عندما خرجت من المستشفى ، وطفقت أفتش في المدينة عن محطة استريح فيها ، قبل أن أعود إلى مدينة قم ، وعلمت أن هناك مسجداً لحزب الدعوة ، وخفف الخبرُ بعضاً من غربتي وآلامي ، ووصلت إلى المسجد ، واستقبلني شاب بعمامة سوداء داكنة ، ووجه أبيض تعلوه حمرة ، ولحية بلون الحناء ، لم أكن أعرفه من قبل ، عرَّف نفسه بالسيد (……) كان الوقت قريبا من الظهر فرأيت جمعاً من المجاهدين القادمين من جبهات الحرب أو الذاهبين إليها ،  يتهيأون لصلاة الظهر . وقبل أن يؤمَ الحاضرين ، أشار إلي وقال :

 –         المجاهدون أولى بالإمامة منا نحن القاعدين .

 شعرت بحرج كبير لتواضعه ، وسجلتُ في  (دفتر ملاحظاتي التي كنت أخفيه في أعماقي) ، إني أتعرف اليوم على شخصية إلهية ، هي مكسب أغلى مما كسبته من ذهابي لجبهة الحرب ، وأنَّى لك أن تتعرف على مثل ذلك في زمن السوء هذا . وعندما انتهت الصلاة ، أدار بوجهه إلى الخلف حيث يجلس المصلُّون ، وطفق يسكب في آذاننا من الوعظ ما لم أسمعه من غيره في حياتي ، كانت كلماته هادئة وما كان يرفع أنظاره لمستمعيه ، لقد كان يرغب في أن يضفي على المحاضرة ضرباً من الخشوع . قلت مع نفسي ، إنه يتعبد أيضاً .. آه .. يا إلهي أن شعباً فيه مثل هذا لن يُهزم ، إن تواضعاً كالذي أراه سوف يعجل لنا النصر إنشاء الله . شكرت الله وحمدته ، ( واخرجت من داخل قلبي ووجداني دفتر ملاحظاتي )  ذلك الذي أخفيه هناك بعيدا عن الأنظار ، وكتبت أسطرا جميلة أخرى لسلوك هذا الرجل الإلهي .

 وعندما طلبت منه في آخر النهار الأذن بالرحيل أمطرني بعبارات رقيقة تنفذ إلى القلب بلا إذن ، ولكي لا أنسى المعروف ، وهذا ما تعودت عليه منذ صغري ، (اخرجت الدفتر من أعماق قلبي ) ، وكتبت أمام اسمه تلك العبارات الجميلة والكلمات المرهفة التي ودعني بها .

 عدت إلى قم .. والتحقت بحوزة  (والفجر) ، ومرَّت الأيام غريبة كأهلها ، وسمعت أحداً يقول : إن السيد (…..) هنا ، وشعرت أن قلبي يكاد يقفز من صدري ، طالعتُ ما كتبته في دفتر ملاحظاتي الذي أخفيه بعيدا في داخلي ، فازداد شوقي لرويته ، وطفقت اعدُّ الثواني لمجيئه ، لقد ايقنت أن كلمات الرجل تخرج من قلبه وليس من لسانه ، وهي مفعمة بالصدق ، لقد أحببته ، لا أدري لماذا ولكني هكذا كنت أشعر ، ولعل منطقه قد جرفني لبحر وده ، وسببا لذلك الميل نحوه .

 وجاء إلينا ، وطفقت اجمع أصحابي من الطلبة وأنا أردد في آذانهم : اسرعوا إيها الأحبة وتزودوا بالتقوى التي لا تحملها إلا نفوسأً نفخ الله من روحه في صورها ، وحباها ما لم يهب أحدا غيرها ، تجمَّعوا يرحمكم الله ، وفعلاُ امتلأت الغرفة بالعطاشى ..

 ودخل علينا السيد ( ….. ) بهندامه الجميل وسحنته البيضاء الهادئة ولحيته التي توحي لك بالإيمان والتقوى ، قبلته بين عينيه وأنا أشعر بالخجل لأني لا أمتلك ما أرد به الجميل ، فقد كنت أشعر أن كلماته الجميلة التي سمعتها منه في مسجد إيلام ، لايمكن أن يكون ثمنها كلمات متواضعة كالتي تطلقها شفاهي ، ثم رحت اشير للطلبة أن اسكتوا حتى لا تضيع علينا كلمات إلهية من رجل إلهي ، وأتذكر أنه بَسملَ وحمد الله وأثنى عليه : ثم طفق يشرح لنا سورة ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق ، وتواصوا بالصبر ) .

 كان حديثه شفافاً جميلاً مشبعاً بالروحية ، ( أخرجت دفتري الذي أخفيه هناك في أعماق وجودي) ، وسجلت ذلك الحديث الإلهي ، وعندما اختليت بالطلبة : قلت لهم وأنا أرفع صوتي واثقاً مفتخراً : ألم أقل لكم أنكم أمام شخص إلهي ، ألم تنظروا إلى وجهه الذي تعلوه التقوى ، وأساريره التي خط عليها التواضع أجمل معانيه ، لقد احسن اختيار السورة ، التي تتلائم تماما وما يتصف به من إيمان ، وصالح الأعمال من اتباع الحق والتمسك بالصبر ، ثم اقسمت لهم : أن هذا السيد ليُستسقى بوجهه الغمام .

 وفي تشرين الأول من السنة ذاتها سافرت من إيران ، واحتفظت بطباع وملامح وكلمات ذلك السيد كمن يحتفظ بكنز ثمين ، وكنت استقي منها الكثير من العبر ،  ومرت السنون تتسارع ، وتلاقفتني تالدول والمحطات في إرض الله الواسعة حتى استقربي المقام في مدينة الضباب ، وكنت ما زلت أتذكر ذلك الرجل النادر ذي الطباع الحميدة والخصال الفاضلة والطلعة الإلهية الفريدة ، نعم أتذكره من خلال ( ذلك الدفتر الذي أحتفظ به في أعماقي ) ، ولطالما حلمت به ، وكنت أرغب في أن أخط في دفتري  الكثير مما أحببته منه ، ولكن أنَّى لي أن أدرك ، ولم أدر في أي الأمصار هو الآن .

 وحصلت المعجزة في التاسع من نيسان 2003 ، وكما يفعل الآخرون ، تسمَّرت أنظارنا في الشاشة الصغيرة ، ونحن نتابع الحدث الكبير ، وتسارعت المشاهد المثيرة ، وتكالبت الأمور ، وتشكلت حكومات وذهبت أخرى ، وجاء برلمانيو انتخابات 2005 ، وعلى غير موعد لمحت معمماً كأني أراه من قبل ، يتربع على أحد مقاعد البرلمان في بغداد ، بوجه أبيض ولحية بلون الحناء ، وهتفت مع نفسي : إنه هو ، نعم إنه هو ، وأنتبه إليَّ أحد الأصدقاء وكان يزورني في بيتي ، وقال : مالك خرجت عن طورك ، من هذا الذي تعنيه ، فالتفتُ إليه وقد علت وجهي ابتسامة فرح مباغتة ، وقلت له :

 –         إنه هو .. الحمد لله .. لم يزل العراق بخير .. أقسم أن العراق بخير .. الشخص الإلهي الذي أعرفه منذ أكثر من عقدين .. إنه السيد ( …… ) .

 وطفقتُ أبذل ما بوسعي لأعرف أين هو ، اريد أن أهنئه بعد أن هنأت العراق ونفسي به ، لقد اصبح من نواب الشعب ، واتصلت ببغداد وبعض الدول في أوربا ، وعلمت أنه يقيم في دولة ليست ببعيدة عن المملكة المتحدة ، وتناهى إلى مسامعي أنه قادم إلى تلك الدولة خلال أيام ، واستطعت أن أحصل على رقم تلفونه من بعض أصدقائه المقربين ، وعندما علمت أنه موجود فعلاً اتصلتُ به ، ودار بيننا حديث قصير ، اخبرته أني قادم غدا لأراه ، وطرت في اليوم الثاني ، مع قلبي المفعم بالشوق لرؤيته ( وبدفتري الذي احتفظ به في داخلي ) منذ أكثر من عشرين عاماً ، وانطلقت من المطار إلى المسجد الذي نصحني أن ألتقيه فيه .

 دخلت المسجد ، ورأيته هناك يتحدث إلى البعض ، ولما أنهى حديثه ، تقدمت إليه ، وسلمت ، ورد عليَّ بفتور ، فوجئت بذلك ، وتسائلت  مع نفسي ، أحقاً أني أمامه ، ذلك الملاك الذي عرفت؟؟ ، تمعنت في كل من حولي وتفرست في اساريره ، لم  تتغير ملامحه كثيراً ، وجهه ابيض مستدير ، ولحيته ما زالت بلون الحناء ، لم تتأثر ببعض الخصال البيضاء الدقيقة ، قلت له أريد أن أتحدث معك ، انصاع لرغبتي ، وأخذني جانباً في أحد زوايا المسجد ، هنأته وطفقت أتحدث إليه عن الماضي . كان يرد بكلمات مختصرة وهدوء ، وعندما نظرت في عينيه ، كانتا أكثر بريقاً مما كنت أعرف عنهما من قبل ، حديثه لم يعد يحمل الدفء المعهود ، حاولت أن اتصيد فيه كلمات أضيفها إلى دفتري القديم ، فلم أفلح ، فكلماته جافة مجدبة .

 ولم يطل مكوثي معه ، وشعرت  أني أصبحت عبئاً ثقيلاً عليه.

  ورأيت أن من الحكمة أن أودعه ، فقد تغير الرجل كثيراً ، لقد أدركت تماماً أن ثمة أشياء في هذه الحياة قد جرفته ، وخاصة أنه قد تقلد منصباً في الحزب وعضوية البرلمان في آن واحد . لكن عليَّ أن اختبر فيه شيئا آخر ، عله يحتفظ ببعض وفاء السنوات العجاف التي عشناها سوياً وتقاسمنا آلامها وهمومها ، وكم كانت خيبتي أكبر عندما وجدت أن كلمة الوفاء هي الأخرى قد شطبها من قاموسه ، ولعله فعل ذلك منذ أمد بعيد .

 لم يبق أمامي إلا أن أقنع نفسي أني لم أزل مغفلاً ، فالرجل قد أصبح شيئا آخر ، فأنزلتُ كفِّي إلى داخلي ، اريد أن أمزق ما كتبته ، فلا يصح أن أخدع نفسي أكثر ، وعالجت قلبي لأخرج  (الدفتر الذي كتبت فيه كل تلك الأشياء الإلهية الجميلة عنه ) ، وأخيراً نجحت في إخراجه . لكني وأنا أفعل ذلك ، أحدثت في ذلك القلب جرحاُ عميقاً .

 

You may also like

Leave a Comment

About The New Iraq

( العراق الجديد) صحيفة ألكترونية تصدر عن المركز الإعلامي العراقي في لندن حرة غيرمرتبطة بأي جهة أوتكتل سياسي تهدف الى خدمة أبناء شعبنا العراقي وتدافع عن مصالحه السياسية والثقافية والإجتماعية

All Right Reserved. 2024 – TheNewIraq.com – Media & Studies Centre