منظومة القيم وواقع الفساد في العراق ( الحلقة الخامسة ) – الدكتور طالب الرماحي

by admin
0 comment 56 views

تناولت في الحلقة السابقة آفة الجهل الذي ورثته الأمة عن النظام السابق وعن تراكمات الظروف الموضوعية التاريخية التي مرت بها ، وأشرت إلى أن الجهل هو الحاضنة لأي شكل من أشكال التخلف ، وأن الأحزاب الممسكة بزمام العراق قد وظفته لتحقيق مآرب سياسية ومادية ، وهي تعمل على تغذيته لتضمن تحقيق أهدافها الآنية والمستقبلية في البقاء في السلطة ، وهي تحاكي بذلك ما كان يفعله النظام السابق ، هذا العمل هو أخطر ما تواجهه الأمة ، وخاصة أن النخب التي تمتلك قسطاً من الوعي والتي ترتبط بالأحزاب السياسية أو المؤسسات الدينية ، لم تبادر إلى مجابهة الجهل بل هي مشغولة في الامتيازات التي وفرتها لها الجهات التي تنتسب إليها ، بل أن تلك الجهات لا تمتلك مشروعا لتوعية الأمة لأنه يتعارض وأهدافها ، نعم ثمة صراعات بين الكتل السياسية على المناصب والمكاسب المادية ، وهناك شبيه له بين بعض الكتل السياسية والمؤسسات الدينية ، بل هناك تحالف غير معلن بين أطراف حكومية متنفذه وأخرى دينية لتقاسم بعض المكاسب المادية والمناصب الحكومية ، يعود إلى فترة إنشاء ( البيت الشيعي ) وانتخاب أول برلمان وطني ، فلا يوجد إذن أي صراع بين الجهل وحاضر الإمة ، وإذا وجد مثل ذلك فلا يعدو أن يكون محاولات خجولة بدائية غير مجدية يراد منها دفع الحرج ، كالمحاولات لتأنيب ( المفسدين وقادته ) من بعض الأطراف السياسية المستقلة وبعض الرموز الدينية ، لكن تلك المحاولات لاتتعدى الخطب والتصريحات على منابر الجمعة وفي الماضرات العامة ، وليس ثمة نوايا من تلك الأطراف للإقتراب من تشكيل جبهة عملية فاعلة ومنهجية لمحاربة الفساد والتخلف ، كما فعلته الشعوب قبلنا ، ولذا فإن من حق الأمة في أن تتهم تلك الأطراف في أنها تعمل بأضعف الإيمان ، مع قضية تشكل الأساس في التقدم والانعتاق من قيود التخلف. أرى من الفائدة أن أتناول تركيبة المجتمع العراقي في ظل الظروف السياسية والدينية الحالية ، قبل أن أطرح رؤيتي لعملية الإصلاح ، لأن مجتمعنا العراقي يعيش ومنذ نيسان 2003 حالة من ( التفكك الاجتماعي والسياسي ) ، فلا توجد مؤشرات لأي خطوط بيانية ومعالم واضحة على الأرض لأسس بناء دولة مدنية حديثة ، وأن كل ما يرد على ألسنة الخطباء في الدين والسياسة هو مجرد أماني ، البعض منها يعكس رغبة حقيقية ، لكن أكثرها يراد منها خداع الأمة بوجود مشروع لبناء دولة ، وخاصة تلك التي تصدر عن رموز الأحزاب ، فالذي نراه واضحا هو سباق محموم بين الوجودات السياسية والدينية نحو تقوية كياناتها وتقوية جذورها ( ماديا واجتماعيا ) بأي طريقة – كما أسلفنا – مع غياب أي تنافس شريف على بناء الدولة ، بل أن المشكلة هو في غياب أي تطلع لدى تلك الأطراف أصلاُ لبناء تلك الدولة ، وأنا أعني بذلك غياب المشاريع الاجتماعية التي تعتبر أساسا مهما للشروع في عملية البناء . وغياب الثقافة المؤسساتية لدى الأحزاب وسيطرة ظاهرة العمل الإرتجالي في إدارة الدولة ، ظاهرة غريبة في مشاريع بناء الدول الحديثة ، ومن أسباب ذلك ضعف اداء السلطة التشريعية التي أخفقت وبعد تسع سنوات من التغيير أن تشرع أقل من 15% من القوانين ، فبقي المجتمع رهينا لقوانين النظام البعثي السابق ، بل أن مجلس الوزراء هو الآخر يعمل بلا نظام داخلي طيلة السنوات التسع الماضية ولحد الآن . وأكثر مما نخافه هو استمرار حالة عدم الانسجام بين مكونات الأمة بسبب اختلاف وجهات النظر بين الكتل السياسية المتصارعة على المصالح الحزبية والشخصية وعلى الثروة بالذات ، ولذا فإن أي مشروع إصلاحي ( اجتماعي أو سياسي ) سوف لن يكتب له النجاح مالم تتوفر قناعة مشتركة ومباركة بذلك المشروع من الرموز التي تتصدى المشهد السياسي والديني ، ومكونات الشعب العراقي في الوقت الحاضر هي : أولاً : العمال والفلاحون والكسبة : نطلق عليها ( الطبقة البدوية ) مصطلح نستعيره من ابن خلدون ، وهي التي تتصف بالخشونة وبالبساطة والكرم والشجاعة ، لكن أخطر ما في هذه الطبقة أنه يسهل قيادتها من قبل القوى ( المؤدلجة ) كالتيارات السياسية أو الرموز الدينية ، كونها لا تمتلك الوعي الكافي الذي يجنبها الوقوع في شراك التبعية السياسية أو الدينية ، وتوظيف هذه التبعية لصالح مشاريع بعيدة عن مصالحا ، وبما أن هذه الطبقة في العراق تتصف بالفقر، فإن من أكبر المداخل في استغلالها هو فقرها وقلة حيلتها ، فتقع في شباك الإغراءات المادية . ثانياً : النخب والمثقفون : ونقصد بالنخب هم حملة الشهادات العلمية والأكاديمية ، ولا يعول على أي من هذه الطبقة على من ينتمي إلى الأحزاب السياسية أو من يعمل تحت تأثير المؤسسات الدينية ، ونعني بهؤلاء خاصة من يمتلك في دواخله ولاءا حزبيا أو دينيا مؤدلجاً ، ويطلق على هؤلاء ( بالنخبة التابعة ) يضاف إلى هؤلاء ألمستقلون الذين يفتقدون وعيا سياسيا أو اجتماعيا ، مع امتلاكهم قدرات علمية كبيرة ويمكن الآستفادة منها في بناء البلد كل حسب اختصاصه ، من خلال توجيههم ، ويمكن لنا أن نطلق علىهم ( بالنخبة المَوجَهة ) . هناك ( الطبقة المُتَرقبة ) من النخب المخلصة المثقفة ، ولديه صورة واضحة لطبيعة المشاكل التي تحيط بالأمة ، إلا أنها لاتمتلك تصورا للخروج من تلك المشاكل ولا مشاريع محددة للإصلاح ، وهؤلاء غالبا مايشعرون بالإحباط وخيبة الأمل ، لكن هؤلاء يميلون إلى المشاركة بقوة في أي مشروع إصلاحي ، إذا ما اقتنعوا بجديته في أنقاذ الأمة ، وتكمن أهمية هذه الطبقة في أنها تشكل الأكثرية في المجتمع العراقي خاصة . وتبقى لدينا ( الطبقة الواعية) وهي الأكثر أهمية في المجتمع العراقي ، وتمتلك هذه الفئة تصورا واضحا ودقيقاً لطبيعة ما يحيط بالشعب العراقي من أزمات سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية ، كما أن لديها كامل التصور عن المشاريع التي من شأنها أن تكون مدخلاً للخروج من تلك الأزمات ، لكنها لاتمتلك مقومات التحرك باتجاه الحل ، وهذه الطبقة من المثقفين أكثر الطبقات حركة وديناميكية ، وهي تنتظر توفر الفرص للدخول في معترك الصراع من أجل التغيير والإصلاح الحقيقي لإنقاذ الأمة من الفساد والتخلف . وهذه النخبة الأكثر رصدا من قبل الأحزاب السياسية الحاكمة وحلفائها ، وتعمل الأخيرة على إضعافها لأنها الأشد خطرا على وجودها ومستقبل هيمنتها على مقومات الأمة وكشف أساليبها غير المشروعة للهيمنة على مرافق الدولة المختلفة . والطبقة الأخيرة ( الطبقة المبادرة ) وهي نادرة ، ويحدثنا التاريخ أن المبادرين هم الذين غيروا وجه العالم ، فهم يمتلكون جرأة كبيرة وشجاعة فائقة في اقتحام المخاطر من أجل التغيير ، والأمة التي لاتمتلك مبادرين هي أمة خائبة لاتنتظر مجدا ولا تتوقع أن تقوم لها قائمة ، والذي يؤسف له أن الشيعة في تاريخ العراق الحديث يكاد أن تنعدم فيه هذه الظاهرة ، إلا ما عرفناه من موقف مبادر للشهيد السيد محمد باقر الصدر ، الذي سجل مبادرة من خلال تحديه للنظام البعثي ، لم تفلح في تحقيق نجاحات مهمة في المجتمع ، إلا ما لمسناه من ولادة تيار واع ، هذا التيار سرعان ما إصيب بهزيمة وضياع بعد أن حولت الأحزاب العراقية – قبل وبعد التغيير – ذلك الشهيد المبادر إلى سلعة للمتاجرة السياسية . ثالثاً : السياسيون ورجال الدين : سوف نتناول هاتين الطبقتين بشيء من الإسهاب ، فهما يمسكان بتلابيب الأمة منذ نيسان 2003 ولحد الآن ، ومع وجودهما لم ير الشعب العراقي أي بوادر أمل في انفراج قريب من الفوضى السياسية والاجتماعية ، وتخلف غير مسبوق في القيم الأخلاقية ، فلقد شهد الشعب العراقي من مظاهر الفساد والتخلف مالم يشهده من قبل ، ونحن نعتقد أن السياسي ورجل الدين مسؤلان بشكل مباشر عن ذلك ، لأن في أيديهما فقط كل مقومات الخلاص من قدرات مادية واجتماعية ، ومع ذلك لم نر أي خطوة أو بادرة باتجاه الإصلاح ، فالأمور لم تزل تسير في منحدر خطير ، فالسياسيون لم ينجحوا في تحقيق الحد الأدنى من طموح الشعب العراقي ، فكل واحد منهم مشغول في تأكيد ذاته والبحث عن مصالحها ومصالح الحزب أو الكتلة التي ينتمي إليها ، ورجال الدين ، لم يدرك الشعب العراقي بعد لهم موقفا واضحاً من التخلف والفساد وغياب القيم الدينية التي هي أصلاً من مهامهم ، ومسؤوليتهم عنها شرعية قبل أن تكون وطنية أو إنسانية ، فتوزع رجال الدين بين الولاء للسياسة والولاء للمرجعية والحوزة ومؤسساتهما ، ولا يدري الشعب العراقي فيما إذا كان رجل الدين في العراق يحق له أن يمارس السياسة كما هو حاصل من البعض ، أو ليس من حقه أن يفعل ذلك كما هو موقف الكثيرين في مؤسساتنا الدينية ، إذن هناك موقف ضبابي ، ففي الوقت الذي أعلنت المرجعية وأطراف كثيرة في الحوزة عدم رغبتها في التدخل في الانتخابات ، نجد أن بعض ممن يحسب على المرجعية يتبنى بعض المرشحين لمجلس النواب ويعملون ما في وسعهم لإيصاله للمجلس ، وهكذا فعلت الحوزة عندما فرضت على طلابها التصويت ( لزيد ) وحشدت كل طاقاتها لإيصاله لقبة السلطة التشريعية ، ولا نعتقد أن من حق الشعب العراقي أن يعترض على أي موقف أيجابي أو سلبي من المشاركة السياسية ، إذا ما اقترن بفتوى واضحة وتفسير شرعي ، ولذا فإن الإشكال يرد عندما يبقى الموقف ضبابيا ، وهذا يفسر من قبل العقلاء أن الموقف الشرعي عند مذهب أهل البيت لم يكن واضحا لدى علمائنا ، أو أن الرغبة في المشاركة ، مع عدم وجود نص شرعي يدفع البعض إلى اتخاذ ذلك الموقف الضبابي ، وكلنا ندرك موقف الشهيد الصدر الذي أوعز إلى طلابه بعدم الانتماء لحزب الدعوة ، بعد أن أشار السيد محسن الحكيم عليه بالانسحاب قبل ذلك ، ولو تسنى لرجل الدين أن يمارس السياسة ، فهل يحق له أن يتقلد منصبا حكوميا ، في ظل ما تشهده المناصب الحكومية اليوم من رواتب خيالية وامتيازات دنيوية غير معهودة ، ومغريات يصعب على النفس الثبات أمامها ، وماذا نفسر توصية السيد السيستاني الأخيرة التي ( منع فيها المعمم من تقلد أي منصب حكومي ، حتى في ديوان الوقف الشيعي ، فهو يرى أن المعمم مهامه الأساسية هو إيصال المباديء الدينية والقيم الأخلاقية وقوانين الشريعة ، وأن الوظيفة الحكومية تبعد المعمم عن تلك المهام بشكل تام . ونحن نعتقد أن ما ذهب إليه السيد السيستاني هو مستوحى مما ذهب إليه أهل البيت عليهم السلام ، طيلة حياتهم ، فلقد منعوا أصحابهم ومن يواليهم من شغل أي منصب حكومي ، مع توفر الكثير من الفرص لهم بعمل ذلك .. وهذا ما سنتطرق إليه في الحلقة القادمة إنشاء الله .

You may also like

Leave a Comment

About The New Iraq

( العراق الجديد) صحيفة ألكترونية تصدر عن المركز الإعلامي العراقي في لندن حرة غيرمرتبطة بأي جهة أوتكتل سياسي تهدف الى خدمة أبناء شعبنا العراقي وتدافع عن مصالحه السياسية والثقافية والإجتماعية

All Right Reserved. 2024 – TheNewIraq.com – Media & Studies Centre